سبب ميل الناس إلى طلب الصلاح في الفقراء
ويقول الشيخ: (فهذا في هؤلاء أكثر) -يعني: الصلاح- (وفي هؤلاء أكثر) -يعني: كمال الصلاح-؛ (لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر) كما قدمنا من الآيات، (فالسالم منها أقل)، فكلما كانت الفتنة أعظم كان الناجي والسالم منها أقل بطبيعة الحال، فإذا كان هؤلاء أقل فإن سلامتهم أكمل، وحالهم أفضل، (فمن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط).
يقول الشيخ: (ولهذا صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء) هذا تعليل ميل كثير من العباد والزهاد والأئمة إلى الفقراء، والميل عن الأغنياء، حتى ولو كانوا أهل أموال، أو أهل دنيا، أو سلاطين أو ما أشبه ذلك فإنك تجد أكثر العلماء والعباد والزهاد يميلون إلى الفقراء؛ لأن الفتنة عندهم أقل، فلا يخشى من زيارتهم، أو محبتهم، أو مودتهم الفتنة، بخلاف ما لو أن الرجل زار الأغنياء، أو أقام علاقات معهم؛ وإن كانت العلاقة لله، لكنه هنا يكون قد تعرض للفتنة ولو بقدر ما، فإنه يرى عندهم من بهارج الدنيا وزخارفها ما ليس لديه، ولو كان الأمر حلالاً، فربما دعاه ذلك إلى أن يشغل قلبه بشيء من أمور الدنيا، فيرى أن بيته أقل، وأن مركبه أقل، وأن لباسه أقل، وأن حال أهله أقل.. وهكذا فهذا يشغله.
وربما جعله ذلك يستدين ليقاربه مثلاً، وربما قال لنفسه أو قال له غيره: إنك لو كنت في بيتك، أو مظهرك، أو حياتك مثل هؤلاء لكان ذلك أدعى أن يأتوك، وأن يستجيبوا لك، أو حتى لا تظهر أنك أقل منهم، فبهذه الطريقة يغرق شيئاً فشيئاً، أو يميل ويركن شيئاً إلى الدنيا، ثم إن لم يجد من أسبابها ما يعينه على أن يكون مثلهم -وهو الغالب أنه كذلك ما دام فقيراً- فهذا يؤدي به إلى أن يشغل نفسه، ويضيع بعض الوقت الذي كان يمكن أن يصرف في دعوة، أو طلب علم، أو جهاد؛ يشغله في تحصيل ما فاته؛ ليكون كهؤلاء، فمن هنا تكون الفتنة بالمال وبأهله أكثر منها في الفقر وأهله؛ (فالمظنة فيهم أكثر).
ثم يقول الشيخ رحمه الله، ويختم كلامه بهذه الفقرة: (فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته) -والظاهر أنها: نسبية- أي: أنها قد تكون في الأغنياء، وقد تكون في الفقراء، أي: ليست مطلقة.
قال: (وكذلك لما رأوا) -يعني: العباد، والزهاد، والذين يميلون عن الدنيا ويريدون وجه الله- (المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر) -وهذا أيضاً بطبيعة الحال والمشاهدة أنه في الفقراء أكثر- (اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر).
وهنا قضيتان: أن المسكنة نسبية، والأمر الآخر: أنهم رأوا أن المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر؛ فظنوا أن ذلك نتيجة الفقر، مع أنه ليس شرطاً، والقضية ليست مطلقة.